السبت، رجب ١٨، ١٤٢٧

يوميات على ذمة حزن درويش




قانا.. طبعة ثانية

فجر اليوم، الثلاثين من تموز، حَقّقت دولة إسرائيل تفوّقها العسكري الكاسح: انتصرت على الأطفال في قانا، وقطَّعتهم أشلاء. كان الأطفال نائمين حالمين بالعودة إلى أسرَّتهم الأصليّة سالمين، ربما حالمين بسلام صغير على هذه الأرض الصغيرة، يكبرون على مَهْلٍ على مهل، ويذهبون إلى المدرسة في أول الخريف، ويهربون منها لا خوفاً من الطائرات.. بل سأماً من درس الجغرافيا. لكنهم قُتلوا دون أن ينتبهوا، فيخافوا ويصرخوا. كانوا نائمين وظلّوا نائمين.. أيدي بعضهم على صدورهم، وأيدي بعضهم مقطوعة. لم أبْكِ منذ فترة طويلة، منذ أدركتُ أن دمعتي تُفرح من يُحبُّونني ميتاً. ولكن الذين يريدوننا ميتين فرحون اليوم مَزْهُوُّون بانتصارهم.. بانتصار غريزة الكراهية والقتل المجانيّ على فطرة حبّ الأطفال لأمهاتهم. لا، ليس الحليب أسود. الحليب دم سائل ومُجَفّف. فلأبْكِ إذاً بلا حَرَجٍ وبلا خشية من شماتة. فالقتلة إيّاهم الخارجون من قانا الأولى يخافون علينا النسيان، ويعيدون تمثيل المذبحة وارتكابها لئلا يحسب أحدٌ منا أن أحلام أطفالنا بالسلام ممكنة التحقيق. لم يعتذروا هذه المرّة، لئلا يتهمهم أحد منا بالرغبة في التكافؤ الأخلاقي بين القاتل والقتيل. لا، لا أستطيع الكلام مع أحد لئلا يسألني: ماذا تكتب؟ لا أخلاق للوصف إذا نزعتْ اللغةُ إلى البلاغة، فليس من حق اللغة أن تشرح الصورة، الصورة التي تضيق بتناثر أشلاء الملائكة الصغار. كم من يسوعٍ صغير تتسع له الأيقونة؟ من يستطيع أن يكتب شعراً اليوم وأن يرسم لوحة وأن يقرأ رواية وأن يستمع إلى موسيقى... فهو آثم. إنه عيد الدولة التي انتصرت على الملائكة، وذكَّرتْنا بأن الهدنة هي استراحتها القصيرة بين مذبحة ومذبحة!

محمود درويش

رام الله، تموز 2006

صحيفة الأيام الفلسطينية